وصل إلى تايوان، في 14 أغسطس، وفد مكون من خمسة أعضاء من الكونجرس الأمريكي برئاسة السناتور إيد ماركي، وهي الزيارة التي لم يتم الإعلان عنها مسبقاً، واستغرقت يومين اجتمع خلالها مع الرئيسة، تساي إينج وين. وتعد الزيارة هي الثانية بعد زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس الشيوخ الأمريكي، في 2 أغسطس، والتي كانت أثارت احتجاجاً صينياً عنيفاً. وأكدت السلطات التايوانية أن الخطوة دلالة على قوة صداقة لا تخشى تهديدات الصين، بينما وصفت بكين الزيارة بأنها خرق لسيادتها.
دلالات زيارة وفد الكونجرس:
يلاحظ أن الأزمة الحالية حول تايوان هي الرابعة بين الولايات المتحدة والصين. وتكشف زيارة الوفد الأمريكي عن عدد من الدلالات، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- زيارة مفاجئة إلى تايوان: يلاحظ أن الولايات المتحدة لم تعلن عن زيارة وفد الكونجرس الأمريكي إلى تايوان مسبقاً، على عكس ما كانت عليه الحال مع زيارة بيلوسي، وهو ما هدفت واشنطن من خلاله إلى تجنب الضغوط الصينية لعدم إتمام الزيارة، ومن ثم تفسير بكين إتمام الزيارة على أنها تحدٍ ثانٍ لها، مما يجبرها على تصعيد مستوى رد فعلها ضد الزيارة.
2- الإصرار على استفزاز الصين: تواصل الولايات المتحدة تجاهل الاحتجاجات الصينية على الزيارات الأمريكية الرسمية إلى تايوان، فقد صرح متحدث باسم البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي بأن أعضاء الكونجرس يزورون تايوان منذ عقود وسيواصلون القيام بذلك، زاعماً أن مثل هذه الزيارات تتفق مع سياسة "صين واحدة" التي تؤيدها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة.
ويلاحظ أن هذا الموقف جاء بعد تهدئة بكين التوتر في مضيق تايوان، فقد نشرت الحكومة الصينية، في 10 أغسطس 2022، كتاباً أبيض بعنوان "المسألة التايوانية وإعادة توحيد الصين في العصر الجديد". وقد تم إصداره بالتزامن مع التراجع في وتيرة التدريبات العسكرية الصينية غير المسبوقة في أغسطس 2022.
وسعى الكتاب إلى إيصال رسالة مفادها أن سياسة الصين تجاه تايوان لم تتغير، وأن الصين لا تزال ملتزمة بالتوحيد السلمي، وفق مبدأ "دولة واحدة ونظامين"، وترفض الحل العسكري على الرغم من فرض المناورات العسكرية الصينية ما يشبه الحصار البحري ضد تايوان، والتي تسعى من خلالها بكين إلى فرض واقع جديد، وهي وجود البحرية الصينية بالقرب من الجزيرة.
ويلاحظ أن تايوان أعلنت، في 11 أغسطس، رفضها نموذج "بلد واحد ونظامين"، وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية التايوانية، جوان أو، في مؤتمر صحفي، أن شعب تايوان وحده يملك حق تقرير مصيره، وهو ما يعني عملياً انفصال تايوان عن الصين، وفقاً لتوجهات الرئيسة التايوانية. وفي 12 أغسطس، جاءت زيارة وفد الكونجرس الأمريكي إلى تايوان ليؤكد الرسالة نفسها، وهي أن واشنطن تدعم تايبية في مساعيها للحفاظ على الوضع الراهن، أي البقاء خارج دائرة النفوذ الصيني، أو حتى الاستقلال.
3- تأكيد حماية واشنطن لتايوان: تستمر واشنطن في اتباع استراتيجية الغموض الاستراتيجي، فهي وإن أكدت دعمها لمبدأ الصين الواحدة، فإنها تواصل عملياً دعم تايوان عسكرياً في مواجهة الصين.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى، تأكيد الرئيسة التايوانية، تساي إنج وين، لوفد المشرعين أنها تريد "الحفاظ على الوضع الراهن المستقر عبر مضيق تايوان"، وأضافت أن الغزو الروسي لأوكرانيا أظهر "التهديد الذي تشكله الدول الاستبدادية على النظام العالمي"، في إشارة ضمنية إلى الصين كذلك. بينما أكد رئيس الوزراء التايواني، سو تسينج تشانج، في مؤتمر صحفي أنه "لا يمكننا أن نظل واقفين لا نفعل شيئاً لأن هناك جاراً شريراً بالجوار" في إشارة مباشرة إلى الصين.
4- بناء واشنطن تحالفات ضد الصين: تهدف واشنطن من خلال الزيارات المتكررة إلى الاستفادة من الرد العسكري الصيني على الاستفزازات الأمريكية عسكرياً، من أجل تسريع جهودها لبناء تحالف عسكري لتطويق الصين عسكرياً في جنوب شرق آسيا، والذي بدأته واشنطن بالفعل من خلال تحالفي الأوكوس وكواد.
5- التهوين من الإجراءات الصينية: تسعى واشنطن للتأكيد أنه على الرغم من التصريحات الغاضبة كافة التي أطلقتها الصين تجاه زيارة بيلوسي، وكذلك المناورات العسكرية ضد تايوان، فإن بكين أخفقت في إجبار واشنطن أو تايبيه على التراجع عن سياستهما، وهو ما يعني أن البلدين يدركان جيداً أن الصين لا تطرح عملياً الحل العسكري على الطاولة في الوقت الحالي.
أبعاد الردود الصينية:
يلاحظ أن الصين استمرت في سياستها ضد تايوان، ولكن بشكل أقل حدة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تحذيرات صينية مستمرة: حذر المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية، وو تشيان، الولايات المتحدة الأمريكية وتايبيه من أن استخدام تايوان للسيطرة على الصين هو أمر محكوم عليه بالفشل. وأضاف وو تشيان أن تايوان جزء من الصين، ويجب ألا تتدخل القوات الأجنبية في هذا الأمر، وتابع: "إننا نحذر الولايات المتحدة والحزب الديمقراطي التقدمي التايواني من أن محاولات السيطرة على الصين عبر تايوان محكوم عليها بالفشل، والاعتماد على الولايات المتحدة من أجل الاستقلال هو بمنزلة انتحار".
2- مناورات عسكرية موازية: تواصل بكين إجراء التدريبات العسكرية بالقرب من الجزيرة، وإن تراجعت وتيرتها مقارنة بالأيام الأولى، غير أنه مع زيارة وفد الكونجرس الأمريكي الثانية إلى تايوان، بدأت الصين مناورات عسكرية جديدة. وحلقت الطائرات الحربية الصينية على بعد 50 كيلومتراً من الجزيرة الرئيسية.
وقال الناطق باسم وزارة الدفاع الصينية، وو كيان، في 16 أغسطس، إن "جيش التحرير الشعبي الصيني يواصل التدرّب والاستعداد للحرب والدفاع بحزم عن السيادة الوطنية وسلامة الأراضي وسحق أي شكل من أشكال استقلال تايوان الانفصالي ومحاولات التدخل الخارجية بشكل حازم"، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وهو ما تسعى من خلاله بكين إلى التأكيد أنها لن تتراجع عن الخيار العسكري، إذا ما قررت الجزيرة إعلان استقلالها عن بكين بشكل رسمي، وهو سيناريو يبدو مستبعداً في الوقت الحالي.
3- محاولة تفكيك التحالفات الأمريكية: سعت بكين لتفكيك التحالفات الأمريكية المناوئة لها، وهو ما وضح من لقاء وزير خارجية كوريا الجنوبية، بارك جين، بنظيره الصيني، وانغ يي، في 10 أغسطس، مقاطعة شاندونج الصينية، وتأكيد الوزيرين على الشراكة التعاونية الاستراتيجية بين الدولتين، وسعى بارك جين إلى تهدئة مخاوف الصين من اتجاه بلاده لامتلاك منظومة النظام الدفاعي الأمريكي "ثاد".
كما دعت بكين الهند للتأكيد على مبدأ الصين الواحدة. فقد حض السفير الصيني في نيودلهي سون ويدونج، في 15 أغسطس، الجانب الهندي على إعادة التأكيد علناً على سياسة صين واحدة، وهو ما تعترف به الحكومة الهندية، غير أنها لم تذكر ذلك في وثائق ثنائية أو في بيانات عامة منذ فترة طويلة.
وقد لا تنجح المحاولات الصينية لاستقطاب الهند بعيداً عن التحالف الأمريكي، سواء بسبب الخلافات الحدودية بين بكين ونيودلهي، أو بسبب قلق الأخيرة من تمدد الأساطيل الصينية في المحيط الهندي، وليس أدل على ذلك من تسليم الهند إلى سريلانكا، في 15 أغسطس، أولى طائراتها للاستطلاع البحري، وذلك عشية وصول سفينة "أبحاث" صينية إلى جنوب سريلانكا، وهو ما أثار قلق واشنطن ونيودلهي.
4- تجنب العقوبات الاقتصادية الإضافية: لم تعلن بكين أي عقوبات اقتصادية إضافية على تايوان، بعد العقوبات التي فرضتها إثر زيارة بيلوسي إلى تايوان، فقد فرضت الصين حظراً على تصديرها الرمال الطبيعية إلى تايوان، والتي تستخدم في صناعة أشباه الموصلات، فضلاً عن حظر واردات الموالح ونوعين من الأسماك من تايوان، ويلاحظ أن الهدف من العقوبات الصينية كان سياسياً بالدرجة الأولى، وليس اقتصادياً، إذ إن معظم الصناعات التي تم استهدافها بالعقوبات في تايوان تقع في مناطق شعبية حزب التقدم الديمقراطي، الذي تنتمي إليه الرئيسة التايوانية، والداعم للانفصال عن تايوان، بينما تحاشت بكين فرض عقوبات على الصناعات التي تدخل ضمن مناطق شعبية حزب كومينتانج المعارض. ومن جهة أخرى، تتجنب بكين فرض عقوبات على أهم منتجات الجزيرة، وتحديداً صناعة أشباه الموصلات، حتى لا يتضرر الاقتصاد الصيني ذاته، أو حتى الاقتصاد العالمي، خاصة في ظل معاناته من أزمة الحرب الأوكرانية.
وفي الختام، يمكن القول إن الصين لا تريد إشعال الصراع حول تايوان إلى مرحلة الحرب المباشرة، طالما أن تايوان لم تعلن استقلالها صراحة عن بكين، كما أن هناك خيارات أخرى لدى الصين للتعامل مع الجزيرة، والتي يأتي في مقدمتها فرض حصار بحري كامل على الجزيرة. وليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تأزيم الصراع مع الصين حول تايوان إلى هذا المستوى أم لا.